سورة الحجر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها- عقب ذلك بهذه الآية- فكأنه قال: وإن في السماء لعبراً منصوبة غير هذه المذكورة، وكفرهم بها، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو.
و البروج: المنازل، واحدها برج، وسمي بذلك لظهوره، ووضوحه، ومنه تبرج المرأة: ظهورها وبدوها، والعرب تقول: برج الشيء: إذا ظهر وارتفع.
و حفظ السماء هو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشياطين تقرب من السماء أفواجاً»، قال: فينفرد المارد منها، فيعلو فيسمع، فيرمى بالشهاب. فيقول لأصحابه- وهو يلتهب- إنه من الأمر كذا وكذا- فيزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة، فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا... الحديث. وقال ابن عباس: إن الشهب تجرح وتؤذي ولا تقتل، وقال الحسن: تقتل.
قال القاضي أبو محمد: وفي الأحاديث ما يدل على أن الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام وحفظ السماء حفظاً تاماً. وقال الزجاج: لم يكن إلا بعد النبي عليه السلام، بدليل أن الشعراء لم يشبهوا به في السرعة إلا بعد الإسلام. وذكر الزهراوي عن أبي رجاء العطاردي أنه قال: كنا لا نرى الرجم بالنجوم قبل الإسلام.
و {رجيم} فعيل بمعنى مفعول. فإما من رجم الشهب، وإما من الرجم الذي هو الشتم والذم. ويقال: تبعت الرجل واتبعته بمعنى واحد. و{إلا} بمعنى: لكن.
قال القاضي أبو محمد: هذا قول، والظاهر أن الاستثناء من الحفظ، وقال محمد بن يحيى عن أبيه: {إلا من استرق السمع}، فإنها لم تحفظ منه- ذكره الزهراوي.
وقوله تعالى: {والأرض مددناها} روي في الحديث: «أن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال» يقال: رسا الشيء يرسو: إذا رسخ وثبت.
وقوله: {موزون} قال الجمهور: معناه مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن- على هذا- مستعار. وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة والفلز كله وغير ذلك مما يوزن.
قال القاضي أبو محمد: الأول أعم وأحسن.
و {معايش} جمع معيشة. وقرأها الأعمش بالهمز وكذلك روى خارجة عن نافع. والوجه ترك الهمز لأن أصل ياء معيشة الحركة. فيردها إلى الأصل الجمع، بخلاف: مدينة ومدائن.
وقوله: {ومن لستم له برازقين} يحتمل أن تكون {من} في موضع نصب وذلك على ثلاثة أوجه.
أحدها: أن يكون عطفاً على {معايش}، كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش، وهي ما يؤكل ويلبس، ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد والصناع وغير ذلك مما ينتفع به الناس وليس عليهم رزقهم.
والوجه الثاني: أن تكون {من} معطوفة على موضع الضمير في {لكم} وذلك أن التقدير: وأنعشناكم وأنعشنا أمماً غيركم من الحيوان. فكأن الآية- على هذا- فيها اعتبار وعرض آية.
والوجه الثالث: أن تكون {من} منصوبة بفعل مضمر يقتضيه الظاهر، تقديره: وأنعشنا من لستم له برازقين.
ويحتمل أن تكون {من} في موضع خفض عطفاً على الضمير في {لكم} وهذا قلق في النحو لأن العطف على الضمير المجرور، وفيه قبح، فكأنه قال: ولمن لستم له برازقين، وأنتم تنتفعون به.
وقوله: {وإن من شيء} قال ابن جريج: وهو المطر خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات.
و الخزائن المواضع الحاوية، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق، وهو ظاهر في قولهم في الريح: عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض؛ إلى غير هذا من الشواهد. وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها، فإذا شاء الله أوجدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضاً ظاهر في أشياء كثيرة. وهو لازم في الاعتراض إذا عممنا لفظة {شيء} وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه.
وقوله: {ننزله} ما كان من المطر ونحوه: فالإنزال فيه متمكن، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به، إنزال على تجوز.
وقرأ الأعمش: {وما نرسله}.
وقوله: {بقدر معلوم} روي فيه عن ابن مسعود وغيره: أنه ليس عام أكثر مطراً من عام، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع.


يقال: لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة: إذا حملت، والرياح تلقح الشجر والسحاب، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة، وتتجه صفة {الرياح} ب {لواقح} على أربعة أوجه:
أولها وأولاها: أن نجعلها لاقحة حقيقية، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه، فهي لاقحة بهذا الوجه، وإن كانت أيضاً تلقح غيرها وتصير إليه نفعها. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمي الشمال الحايل والعقيم ومحوة، لأنها تمحو السحاب. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الريح الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس»؛ ومن هذا قول الطرماح:
قلق لا فبان الريا *** ح للاقح منها وحائل
ومن قول أبي وجزة:
من نسل جوابة الآفاق *** فجعلها حاملاً تنسل.
قال القاضي أبو محمد: ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه.
والثاني: أن يكون وصفها ب {لواقح} من باب قولهم: ليل نائم، أي فيه نوم ومعه، ويوم عاصف ونحوه: فهذا على طريق المجاز.
والثالث: أن توصف الرياح ب {لواقح} على جهة النسب، أي ذات لقح، كقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب *** أي ذي نصب.
والرابع: أن تكون {لواقح} جمع ملقحة على حذف زوائدة، فكأنه لقحة، فجمعها كما تجمع لاقحة، ومثله قول الشاعر [سيبويه]: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة *** وأشعث ممن طوحته الطوائح
وإنما طوحته المطاوح، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله: {لواقح} ملاقح، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري: لواقح ملاقح ملقحة.
وقرأ الجمهور {الرياح} بالجمع، وقرأ الكوفيون- حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب- {الريح} بالإفراد، وهي للجنس، فهي في معنى الجمع، ومثلها الطبري بقولهم: قميص أخلاق وأرض أغفال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته، فكذلك ريح لواقع لأنها متفرقة الهبوب، وكذلك: دار بلاقع، أي كل موضع منها بلقع.
وقال الأعمش: إن في قراءة عبد الله {وأرسلنا الرياح يلقحن}، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الريح من نفس الرحمن»، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق، كما قال: {من روحي} [الحجر: 29] ومعنى نفس الرحمن: أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد. فمن التنفس بالريح النصر بالصبا وذرو الأرزاق بها، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده.
ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره: [الطويل]
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على نفس محزون تجلت همومها
وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول: أسقى وسقى بمعنى واحد، وقال لبيد: [الوافر]
سقى قومي بني مجد واسقى *** نميراً، والقبائل من هلال
فجاء باللغتين، وقال أبو عبيدة: أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال: أسقى، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي، فإنما يقال فيه: أسقى، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
وقفت على رسم لمية ناقتي *** فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجاره وملاعبه
قال القاضي أبو محمد: على أن بيت لبيد دعاء، وفيه اللغتان.
وقوله تعالى: {وإنا لنحن نحيي ونميت} الآيات، هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى وما يوجب توحيده وعبادته، فمعنى هذه: وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة، وبرده عند البعث من مرقده ميتاً، ونميت بإزالة الحياة عمن كان حياً، {ونحن الوارثون}، أي لا يبقى شيء سوانا، وكل شيء هالك إلا وجهه لا رب غيره.
ثم أخبر تعالى بإحاطة علمه بمن تقدم من الأمم، بمن تأخر في الزمن من لدن أهبط آدم إلى الأرض إلى يوم القيامة، وأعلم أنه هو الحاشر لهم الجامع لعرض القيامة على تباعدهم في الأزمان والأقطار، وأن حكمته وعلمه يأتيان بهذا كله على أتم غاياته التي قدرها وأرادها.
وقرأ الأعرج {يحشِرهم} بكسر الشين.
قال القاضي أبو محمد: بهذا سياق معنى الآية، وهو قول جمهور المفسرين: وقال الحسن: معنى قوله: {ولقد علمنا المستقدمين} أي في الطاعة، والبدار إلى الإيمان والخيرات، و{المستأخرين} بالمعاصي.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان اللفظ يتناول كل تقدم وتأخر على جميع وجوهه فليس يطرد سياق معنى الآية إلا كما قدمنا، وقال ابن عباس ومروان بن الحكم وأبو الجوزاء: نزل قوله: {ولقد علمنا} الآية، في قوم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تصلي وراءه امرأة جميلة، فكان بعض القوم يتقدم في الصفوف لئلا تفتنه، وكان بعضهم يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم.
قال القاضي أبو محمد: وما تقدم الآية من قوله: {ونحن الوارثون} وما تأخر من قوله: {وإن ربك يحشرهم}، يضعف هذه التأويلات، لأنها تذهب اتصال المعنى، وقد ذكر ذلك محمد بن كعب القرظي لعون بن عبد الله.
وقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} الآية، {الإنسان} هنا للجنس، والمراد آدم، قال ابن عباس سمي بذلك لأنه عهد إليه فنسي، ودخل من بعده في ذلك إذ هو من نسله، والصلصال: الطين الذي إذا جف صلصل، هذا قول فرقة، منها من قال: هو طين الخزف، ومنها قول الفراء: هو الطين الحر يخالطه رمل دقيق.
وقال ابن عباس: خلق من ثلاثة: من طين لازب وهو اللازق والجيد، ومن {صلصال} وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء ثم ينحسر فتشقق وتصير مثل الخزف، ومن {حمإ مسنون} وهو الطين في الحمأة.
قال القاضي أبو محمد: وكان الوجه أن يقال- على هذا المعنى- صلال، ولكن ضوعف الفعل من فائه وأبدلت إحدى اللامين من صلاص صاداً. وهذا مذهب الكوفيين، وقاله ابن جني والزبيدي ونحوهما على البصرة، ومذهب جمهور البصريين: إنهما فعلان متباينان، وكذلك قالوا في ثرة وثرثارة. قال بعضهم تقول: صل الخزف ونحوه: إذا صوت بتمديد: فإذا كان في صوته ترجيع كالجرس ونحوه قلت: صلصل، ومنه قول الكميت: [البسيط]
فينا العناجيج تردي في أعنتها *** شعثاً تصلصل في أشداقها اللجم
وقال مجاهد وغيره: {صلصال} هنا إنما هو مأخوذ من صل اللحم وغيره: إذا انتن.
قال القاضي أبو محمد: فجعلوا معنى {صلصال} ومعنى {حمإ} في لزوم أنتن شيئاً واحداً.
قال القاضي أبو محمد: والحمأ جمع حمأة وهو الطين الأسود المنتن يخالطه ماء. والمسنون قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير.
قال القاضي أبو محمد: والتصريف يرد هذا القول. وقال ابن عباس: المسنون: الرطب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير لا يخص اللفظة. وقال الحسن، المعنى: سن ذريته على خلقه. والذي يترتب في {مسنون} إما أن يكون بمعنى محكوك محكم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المسن والسنان، وقولهم: سننت السكين وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر: [الخفيف]
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا *** ء وتمشي في مرمر مسنون
أي محكم الإملاس بالسن، وإما أن يكون بمعنى المصبوب، تقول: سننت التراب والماء إذا صببته شيئاً بعد شيء، ومنه قول عمرو بن العاص لمن حضر دفنه: إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سناً، ومن هذا: هو سن الغارة. وقال الزجاج: هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة.
{الجان} يراد به جنس الشياطين، ويسمون: جنة وجاناً لاستتارهم عن العين. وسئل وهب بن منبه عنهم فقال: هم أجناب، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {والجأن} بالهمز.
قال القاضي أبو محمد: والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث: «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر» وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله {من قبل} لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق. و{السموم}- في كلام العرب- إفراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح. وقالت فرقة: السموم بالليل، والحرور بالنهار.
قال القاضي أبو محمد: وأما إضافة {نار} إلى {السموم} في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعاً، ويكون {السموم} أمراً يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ؛ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم: مسجد الجامع، ودار الآخرة، على حذف مضاف.


{إذ} نصب بإضمار فعل تقديره: اذكر إذ قال ربك، والبشر هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد، في الأشهر من القول. ومنه قول النبي عليه السلام: «وافقوا البشر» وقيل البشرة ما يلي اللحم، ومنه قولهم في المثل: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر.
وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور- فهي مخلوقات لطاف- فأخبرهم: أنه لا يخلق جسماً حياً ذا بشرة وأنه يخلقه {من صلصال}.
قال القاضي أبو محمد: والبشر والبشارة أيضاً أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.
و {سويته} معناه: كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله: {من روحي} إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس.
وقوله: {فقعوا} من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم، وإشارة، كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر [أبي الأخزر الحماني]: [الطويل]
فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف
وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا.
وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس: أنه قال: خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس- من الأولين- يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد: في أنه بقي منهم.
وقوله: {كلهم أجمعون} هو-عند سيبويه- تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول. وقال غيره: {كلهم} لو وقف عليه- لصلحت للاستيفاء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كل الناس يعرف كذا، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال: {أجمعون} رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد. وقال ابن المبرد: لو وقف على {كلهم} لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال: {أجمعون} دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.
قال القاضي أبو محمد: واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله: {أجمعون} حالاً. بمعنى مجتمعين، يلزمه- على هذا- أن يكون أجمعين، يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تأبى قوله.
وقوله: {إلا إبليس} قيل: إنه استثناء من الأول، وقيل: إنه ليس من الأول. وهذا متركب على الخلاف في {إبليس}، هل هو من الملائكة أم لا؟ والظاهر- من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية- أنه من الملائكة وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود.
وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن: أن إبليس إنما كان من قبيل الجن ولم يكن قط ملكاً؛ ونسب ابن فورك القول إلى المعتزلة، وتعلق من قال هذا بقوله في صفته: {كان من الجن} [الكهف: 50] وقالت الفرقة الأخرى: لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها وقد قال تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} [الصافات: 158].
وقوله تعالى: {قال: يا إبليس}، قيل: إنه- حينئذ- سماه {إبليس}، وإنما كان اسمه- قبل- عزازيل، وهو من الإبلاس وهو الإبعاد، أي يا مبعد، وقالت طائفة: {إبليس} كان اسمه، وليس باسم مشتق، بل هو أعجمي، ويقضي بذلك أنه لا ينصرف، ولو كان عربياً مشتقاً لكان كإجفيل- من أجفل- وغيره، ولكان منصرفاً، قاله أبو علي الفارسي.
وقوله: {ألا تكون} أن في موضع نصب، وقيل: في موضع خفض، والأصل: ما لك ألا تكون؟ وقول إبليس {لم أكن لأسجد لبشر} ليس هذا موضع كفره عند الحذاق، لأن إبايته إنما هي معصية فقط، وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقاً مفضولاً وكلف أفضل منه أن يذل له، فكأنه قال: وهذا جور، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم من النار يأكل الطين، فقاس وأخطأ في قياسه، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع لا رب غيره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5